تونس في إجازة سياسية- الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في سبات

المؤلف: صالح عطية10.01.2025
تونس في إجازة سياسية- الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في سبات

في مثل هذا الميعاد السنوي من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، اعتادت النخبة السياسية في تونس، سواء كانت في السلطة أو في صفوف المعارضة، أن تستعد لما يطلقون عليه جميعًا "الموسم السياسي الجديد". كان ذلك يتم عبر بيانات، فعاليات سياسية حافلة، ومناوشات كلامية بين الحكومة والأحزاب المعارضة، مستغلين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية كوقود لنشاطهم السياسي.

بناء على ذلك، كان كل فريق يضع جدول أعماله ويعرض برنامجه الطموح لسنة كاملة. يتزامن هذا مع عودة الموظفين الحكوميين إلى مقاعدهم بعد انتهاء العطلة الصيفية المبهجة، واستئناف الطلاب، في مختلف مراحل التعليم، الدراسة في أنحاء البلاد المترامية الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، يعود مجلس نواب الشعب (البرلمان) الموقر للانعقاد وعقد جلساته العامة لمناقشة القوانين الجديدة المقترحة من قبل الحكومة الرشيدة.

كانت كل الهيئات الحزبية والجمعياتية والنقابية، إلى جانب الشخصيات الحقوقية البارزة، تعلن عن مشاريعها المستقبلية، كلٌ من موقعه وفي ضوء أولوياته وعلاقاته المعقدة بالمشهد السياسي وتحالفاته المتغيرة مع هذا الطرف أو ذاك.

واستمر هذا النمط بعد ثورة الياسمين (منذ يناير/ كانون الثاني 2011)، بل وتصاعدت وتيرته بشكل ملحوظ، بفعل الخلافات السياسية العميقة بين الحكومة والمعارضة، أو بين أحزاب اليمين واليسار المتناحرة.

كان هذا الوقت من كل عام فرصة سانحة للتقييم السياسي والحقوقي، ومحاولة لرسم مسار جديد للوضع الراهن. كانت الحكومة تطرح مشاريعها وإستراتيجياتها الطموحة، بينما تعرض أحزاب المعارضة مطالب المرحلة بجرأة، وترفع سقف مطالبها وتوسع هامش المناورة المتاح لها، وتحدد آفاق تحركاتها وعلاقاتها المتوترة بالحكومة. وفي الوقت نفسه، تنشط المنظمات الحقوقية في الإعلان عن مجالات اهتمامها، سواء تعلق الأمر بتعديل القوانين القائمة أو النضال من أجل إصدار تشريعات جديدة.

في طي النسيان

ولكن، منذ ما يزيد على أربع سنوات، أضحى مفهوم "السنة السياسية الجديدة" ذكرى من الماضي الجميل، ولم يعد أحد يثير هذا الموضوع على الإطلاق، إلا في سياق استعراض الذكريات والتعبير عن الأسى لما آلت إليه الأوضاع.

فقد وضع "تغيير يوليو/ تموز 2021″، بقيادة الرئيس الحالي قيس سعيد، حدًا لهذا الحراك السياسي والاجتماعي المعتاد في البلاد. وأصبحت تونس تعيش حالة من الركود، وكأنها في "عطلة طويلة". فالسلطة التنفيذية لا تقدم إستراتيجية مفصلة وواضحة ومنظمة، والمعارضة والمجتمع المدني لم يحافظوا على تقاليدهم الراسخة.

بل إن معظم هؤلاء الفاعلين انسحبوا تمامًا من المشهد العام، واكتفى البعض بإصدار بيانات مقتضبة وباهتة لا تتجاوز حدود تسجيل موقف خجول، وفي أحيان كثيرة بأسلوب فاتر، يكرر مقولات قديمة ويعيد إنتاج خطاب مبتذل لم يعد يثير اهتمام حتى المنتسبين لهذه الفعاليات، فضلًا عن جذب مواطنين جدد أو "نشطاء" متحمسين.

احتضار السياسة.. وتلاشي الأحزاب

تحدث البعض بحسرة عن "احتضار السياسة" في تونس، فيما أعلن آخرون عن "تلاشي الأحزاب"، بينما رأى فريق ثالث أن جميع الهيئات السياسية والاجتماعية والحقوقية أصبحت "في وضع أشبه بالسجن الموسع"، حسب تعبيرهم، في إشارة واضحة إلى حالة التضييق والتخويف التي تمارسها السلطة الحاكمة، وسَوق الجميع – سياسيين ونقابيين وصحفيين ومدونين ورجال أعمال – إلى السجون. حتى إن البعض قال إن الخبر السائد في وسائل الإعلام التونسية اليوم هو اعتقال شخص ما أو إصدار مذكرة إيداع بحق آخر.

وهكذا، تراجعت الأحزاب وشخصياتها البارزة التي كانت تعبر عن مواقفها بأصوات عالية ونبرة حادة في بعض الأحيان. وتوقفت أنشطتها التي كانت غزيرة الإنتاج، وبات المرء يجد صعوبة بالغة في العثور على بيان صادر عن هذا الحزب أو ذاك، بعد أن كانت البيانات تصدر بوتيرة محمومة قد تصيب القارئ بالذهول.

تقلصت تحركات الأحزاب في بعض التكتلات الصغيرة (جبهة الخلاص، وحزب العمال، وائتلاف الأحزاب الديمقراطية)، بعد أن كان المشهد السياسي يعج بالنشاط الحزبي. حتى بلغ عدد الأحزاب المعترف بها من قبل الدولة ما يربو على 250 حزبًا، بينها نحو 20 حزبًا – على الأكثر – تنشط في الساحة السياسية بأنماط مختلفة، وتجد مساحة في وسائل الإعلام للتعبير عن وجهات نظرها ومقترحاتها.

لم تشهد الساحة السياسية التونسية جمودًا مماثلًا لما نلمسه اليوم. حتى الأحزاب التي يقبع قادتها في السجون، بتهمة "التآمر على أمن الدولة" أو التورط في "الإدارة السيئة" لملفات الدولة عندما كانت في السلطة، وفقًا لادعاءات السلطات الحاكمة، لم تحرك ساكنًا لإنقاذ قادتها. وهي تكتفي ببعض الوقفات الاحتجاجية المتواضعة من حيث الحضور والمشاركة، أو بإصدار بيانات لا يطلع عليها سوى بضع مئات من الفاعلين والنشطاء السياسيين.

أما عن حراك "التحالفات الحزبية" الذي كان يزين المشهد السياسي بين اليمين واليسار، أو بين اليمين وأنصار النظام السابق، فقد أصبح في طي النسيان، ولم يعد أحد يلاحظه على الإطلاق. لقد تفرق الجميع عن الجميع، في مشهد يثير الكثير من التساؤلات والشكوك.

فهل تاهت الأحزاب وسط تسلط السلطة والخشية من الملاحقات القضائية لأسباب واهية أو بدون أسباب؟ هل تكمن المشكلة في "قمع النظام" و"استبداده"، كما يرى معارضو الرئيس قيس سعيد، أم في تورط هذه الأحزاب بالفعل في "المال السياسي الفاسد" و"التمويل الأجنبي المشبوه" والفساد المستشري في الحكم، كما يزعم نظام ما بعد 25 يوليو/ تموز 2021؟

ثم لماذا تصمت أحزاب المعارضة اليوم (باستثناء قلة قليلة جدًا)، في حين أنها مطالبة بالتحرك من أجل استعادة الديمقراطية والحريات التي عاشها التونسيون طوال عشر سنوات كاملة (2011-2021)، كما تؤكد قيادات المعارضة نفسها وتعلن ذلك مرارًا وتكرارًا؟

ومع أن هذه التساؤلات مشروعة وهامة لفهم أسباب صمت الأحزاب وخفوت صوتها وتراجع حضورها، إلا أن المعضلة أعمق وأكبر من ذلك بكثير. إذ ليست الأحزاب وحدها المعنية بهذه التساؤلات، فهناك هيئات أخرى لا تقل أهمية وتأثيرًا في المشهد السياسي العام بالبلاد ينطبق عليها ما يقال بشأن الأحزاب.

المنظمة النقابية.. هل هي جزء من المشكلة أم جزء من الحل؟

فالنقابات، على اختلاف توجهاتها وأسمائها ونفوذها الجماهيري، قد آثرت الصمت وانضمت إلى صفوف "المراقبين المحايدين". تكتفي بمتابعة الأحداث عن كثب، وكأنها تجلس على المدرجات في ملعب لكرة القدم يشهد مباراة مملة لا طائل منها.

بل إن الأمين العام لأكبر منظمة نقابية في البلاد (الاتحاد العام التونسي للشغل) قد أدلى بتصريح يكشف بوضوح عن حالة الخوف والتخبط والضياع التي تعيشها المنظمة بعد أربع سنوات من "التغيير".

فقد صرح نور الدين الطبوبي مؤخرًا قائلًا: "نحن لسنا حزبًا سياسيًا، إننا منظمة مستقلة، ولسنا في صراع مع السلطة"، وهو ما أثار ضده موجة انتقادات واسعة ولاذعة وساخرة في آنٍ معًا، من نشطاء سياسيين ومن الرأي العام المجتمعي، بل وحتى من نقابيين ينتمون إلى نفس المنظمة النقابية.

كانت قيادة اتحاد الشغل، منذ الثورة إلى حدود "تغيير يوليو/ تموز 2021″، تعتبر نفسها معنية بالشأن السياسي وتدخلت لإسقاط حكومات والمشاركة في حكومات أخرى، ووضعت نفسها في خندق المعارضة ضد الحكومات المتعاقبة.

كما نشطت في تنظيم الإضرابات والاحتجاجات بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، بلغت، وفقًا لإحصائيات منظمة العمل الدولية، حوالي 34 ألف إضراب واحتجاج في غضون أكثر من عامين.

بل إن هذه المنظمة لعبت أدوارًا سياسية بارزة في إسقاط فصيل سياسي (حركة النهضة)، الذي كان جزءًا من منظومة الحكم بعد الثورة، وهو ما صرح به الأمين العام السابق للاتحاد، حسين العباسي (وأورده في مذكراته الصادرة مؤخرًا)، عندما أكد أن الاتحاد "فعل المستحيل لكي لا تنجح حكومة النهضة، ودفعنا باتجاه إخراجها من الحكم"، وعندما سئل عن الآليات التي استخدمت لهذا الأمر، أشار إلى الإضرابات والاحتجاجات، والتحالف مع من أسماهم بـ"القوى التقدمية والديمقراطية" في البلاد.

فلماذا يتراجع الاتحاد النقابي اليوم؟ ولماذا يتخلى عن المبادئ التي كانت تمثل جوهر خطابه ومحرك تحركاته خلال السنوات الماضية؟ ولماذا بات يتردد في الحديث عن "التلازم الوثيق بين الاجتماعي (النقابي) والسياسي" في مهمته ودوره تاريخيًا وحاضرًا؟

قضايا الفساد

لقد بات ملف الفساد المتشعب داخل المنظمة النقابية، والمطروح على طاولة رئيس الجمهورية، كما يتردد، أحد العوائق الرئيسية التي دفعت النقابيين إلى التنصل عن أدوارهم "الثورية" التي نذروا لها أنفسهم وهياكلهم خلال العقد الماضي، بينما تتحرك قيادتهم اليوم بحذر شديد، خشية أن يطالها سيف القضاء المسلط، على الرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى المؤسسة القضائية.

ولم يشفع للمنظمة النقابية تبريرها "لتغيير" قيس سعيد على البرلمان ودستور عام 2014 وعلى الانتقال الديمقراطي، ولم يشفع لها صمتها المريب إزاء الانتهاكات الحقوقية الجارية حاليًا في البلاد، وفقًا لما يقوله محامون يتابعون القضايا السياسية المنظورة أمام المحاكم، أو ما تتحدث عنه منظمات حقوقية وتحذر من استمراره.

لقد ساهم اتحاد الشغل، بشكل أو بآخر، في إطالة أمد حالة الركود الحالية في تونس، بمواقفه وطريقة تعامله مع الوضع وأسلوب تعاطيه مع السلطة، وغياب التنسيق مع الأحزاب والمكونات السياسية التي كانت بالأمس القريب أدواته الفعالة وشركائه الرئيسيين في المشهد.

الحقوقيون ونقابة المحامين

لكن ليس اتحاد الشغل وحده من يساهم في إطالة أمد هذه "العطلة الاضطرارية"، بل يشمل الأمر أيضًا منظمات حقوقية عديدة، بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ومنظمة "النساء الديمقراطيات"، ونقابة المحامين، إلى جانب هيئات حقوقية أخرى عديدة تنتمي إلى منظمات المجتمع المدني، والتي كانت لاعباً أساسياً في زمن حكم بن علي وبعد الثورة التونسية.

إن مختلف هذه المكونات التي أبدت استحسانها لما حدث في 25 يوليو/ تموز 2021، متأملة في الحصول على أدوار جديدة في المشهد السياسي المستجد، وجدت نفسها مهمشة بعد أن أعلنت تأييدها لما حدث، وهي تجد نفسها اليوم فاقدة لأي مصداقية حقوقية بعد أن تعاملت مع العديد من الملفات والقضايا والتطورات بعقلية أيديولوجية ضيقة، كما يرى بعض المراقبين، ففقدت بذلك مصداقيتها.

وعلى الرغم من أن معظمها عقد مؤتمراته لتغيير بعض الوجوه، والإيحاء بوجود تغيير حقيقي مرتقب، فإن الأمور بقيت على حالها دون تغيير يذكر على مستوى المواقف والتقديرات والمعالجات.

واليوم، وبعد مرور بضع سنوات على تعطيل مسار "الانتقال الديمقراطي" وتحول تونس إلى ما يشبه "حضانة أطفال" سياسيًا، تبدو البلاد في وضع أشبه بمن يتمتع بـ"إجازة قسرية"، على غرار بعض الإجازات الوظيفية التي تفرض قسرًا على بعض الموظفين.

تونس منذ بضع سنوات في "عطلة اضطرارية"، فالكل فيها معطل، سواء كانوا من المعارضين لـ"التغيير" أو من المؤيدين والمبررين لخياراته، سواء كانوا في المعارضة بضعفها ووهنها، أو في الحكومة بسلطتها ونفوذها، فالجميع عاجز عن تغيير الأوضاع المعقدة، لأن آليات المرحلة بدورها في "عطلة"، ويتمنى المرء ألا تطول مدة هذه العطلة، لأنها ستكون مكلفة للغاية على الجميع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة